كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} [النور: 21] فإنْ وسوس لك من جهة، فتأبَّيْتَ عليه ووجد عندك صلابةً في هذه الناحية وجَّهك إلى ناحية أخرى، وزيّن لك من باب آخر، وهكذا يظل بك عدوك إلى أنْ يُوقِعك، فهو يعلم أن لكل إنسان نقطة ضَعْف في تكوينه، فيظل يحاوره إلى أنْ يصل إلى هذه النقطة.
والشيطان: هو المتمرد العاصي من الجن، فالجن مقابل الإنس، فمنهم الطائع والعاصي، والعاصي منهم هو الشيطان، وعلى قِمتهم إبليس؛ لذلك يقول تعالى في سورة الكهف: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50].
وسبق أن ذكرنا أنك تستطيع أن تُفرِّق بين المعصية من قِبل النفس والمعصية من قِبل الشيطان، فالنفس تُلِح عليك في معصية بعينها لا تتعدّاها إلى غيرها، أما الشيطان فإنه يريدك عاصيًا على أيِّ: وجه من الوجوه، فإن امتنعت عليه في معصية جَرَّك إلى معصية أخرى أيًا كانت.
ثم يقول سبحانه: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشاء والمنكر} [النور: 21] ولك أنْ تسأل: أين جواب {مَنْ} الشرطية هنا؟ قالوا: حُذِف الجواب لأنه يُفهم من السياق، ودَلَّ عليه بذكر عِلَّته والمسبّب لَه، وتستطيع أن تُقدِّر الجواب: مَنْ يتبع خطوات الشيطان بُذِقْه ربه عذاب السعير؛ لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر، فَمَنْ يتبع خطواته، فليس له إلا العذاب، فقام المسبّب مقام جواب الشرط.
والكلام ليس كلام بشر، إنما هو كلام رَبِّ العالمين. وأسلوب القرآن أسلوب رَاقٍ يحتاج إلى فكر وَاعٍ يلتقط المعاني، وليس مجرد كلام وحَشْو.
أَلاَ ترى بلاغة الإيجاز في قوله تعالى من سورة النمل: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28].
ثم يقول تعالى بعدها: {قَالَتْ يا أيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29].
وتأمل ما بين هذيْن الحدثيْن من أحداث حُذِفت للعلم بها، فوعي القاريء ونباهته لا تحتاج أن نقول له فذهب الهدهد.. وو إلخ فهذه أحداث يُرتِّبها العقل تلقائيًا.
وقد أوضح الشيطانُ نفسه هذه الخطوات وأعلنها، وبيَّن طرقه في الإغواء، ألم يقل: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] فلا حاجةَ للشيطان بأصحاب الصراط المعوج لأنهم أتباعه، فالشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلًا، إنما يذهب إلى المسجد ليُفسِد على المصلين صلاتهم، لذلك البعض ينزعج من الوساوس التي تنتابه في صلاته، وهي في الحقيقة ظاهرة صحية في الإيمان، ولولا أنك في طاعة وعبادة ما وسوس لك.
لكن مصيبتنا أن الشيطان فقط طرف الخيط، فنسير نحن خَلْفه نكُرّ في الخيط كَرًّا ولو أننا ساعة ما وسوس لنا الشيطان استعذْنا بالله من الشيطان الرجيم، كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200].
إذن: إياك أنْ تقبل منه طرف الخيط؛ لأنك لو قَبِلْته فلن تقدر عليه بعد ذلك.
ومن خطوات الشيطان أيضًا قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} [الأعراف: 17].
إذن: للشيطان في إغواء الإنسان منهج وخُطّة مرسومة، فهو يأتي الإنسان من جهاته الأربع: من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله. لكن لم يذكر شيئًا عن أعلى وأسفل؛ لأن الأولى تشير إلى عُلُوِّ الربوبية، والأخرى إلى ذُلِّ العبودية، حين ترفع يديك إلى أعلى بالدعاء، وحين تضع جبتهك على الأرض في سجودك؛ لذلك لا يأتيك عدوك من هاتين الناحيتين.
ثم يقول تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} [النور: 21].
قلنا: إن فضل الجزاء يتناوبه أمران: جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقه، وجزاء بالفضل حينما يعطيك ربك فوق ما تستحق؛ لذلك ينبغي أن نقول في الدعاء: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب. فإنْ عاملنا ربنا- عز وجل- بالعدل لَضِعْنا جميعًا.
لكن، في أيِّ شيء ظهر هذا الفضل؟ ظهر فضل الله على هذه الأمة في أنه تعالى لم يُعذِّبها بالاستئصال، كما أخذ الأمم السابقة، وظهر فَضْل الله على هذه الأمة في أنه تعالى أعطاها المناعة قبل أن تتعرَّض للحَدث، وحذرنا قديمًا من الشيطان قبل أن نقع في المعصية، وقبل أن تفاجئنا الأحداث، فقال سبحانه: {فَقُلْنَا ياءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117] وإلا لغرق الإنسان في دوامة المعاصي.
لأن التنبيه للخطر قبل وقوعه يُربِّي المناعة في النفس، فلم يتركنا ربنا- عز وجل- في غفلة إلى أنْ تقعَ في المعصية، كما نُحصِّن نحن أنفسنا ضد الأمراض لنأخذ المناعة اللازمة لمقاومتها.
وقوله تعالى: {مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] زكَى تطهَّر وتنقّى وصُفِّيِ {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] وقال: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] لأنه تعالى سبق أنْ قال: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ} [النور: 19] ذلك في ختام حادثة الإفك التي هزَّتْ المجتمع الإسلامي في قمته، فمسَّتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصِّدِّيق وزوجته أم المؤمنين عائشة وجماعة من الصحابة.
لذلك قال تعالى {والله سَمِيعٌ} لما قيل {عَلِيمٌ} [النور: 21] بما تُكِّنُه القلوب من حُبٍّ لإشاعة الفاحشة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى}.
تورط في حادثه الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طُبِع على الخير، لكنه فُتِن بما قيل وانساقَ خلف مَنْ روَّجوا لهذه الإشاعة، وكان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر ينفق عليه ويرعاه لفقره، فلما قال في عائشة ما قال وخاض في حقها اقسم أبو بكر ألاّ ينفق عليه، وقد كان يعيش وأهله في سَعَة أبي بكر وفضله؛ لأن هذه الفتنة جعلتْ بعض أهل الخير يضِنُّ به.
وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يُقدِّر صنائع المعروف، وهذا الفعل يُزهِّد الناس في الخير، ويصرفهم عن عمل المعروف، والله تعالى يريد أنْ يُصحِّح لنا هذه المسألة، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعةَ الإيمان؛ لأن الذي يعصي الله فيك لا تكافئه إلا بأنْ تطيع الله فيه.
وحين تترك مَنْ أساء إليك لعقاب الله وتعفُو عنه أنت، فإنما تركتَه للعقاب الأقوى؛ لأنك إنْ عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك، وإنْ تركتَ عقابه لله عاقبه بقدْر طاقته تعالى وقدرته.
إذن: العافي أقسى قَلْبًا من المنتقم، وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأخ حين يعتدي على أخيه الأصغر، فيأتي الأب فيجد صغيره مهانًا مظلومًا، فيأخذه في حضنه، ويحاول إرضاءه وتعويضه عَمَّا لَحِقه من ظلم أخيه، كذلك الحال في هذه المسألة ولله المثل الأعلى.
ومن هنا يجب عليك أن تُسَرَّ بمَنْ جعل الله في جانبك، وتُحسن إليه، لا أن تردّ له الإساءة بمثلها.
إذن: نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر أَلاَّ ينفق عليه وعلى أهله، وأنْ يمنع عنه عطاءه وبِرّه، نزلت لتصحح للصِّديق هذه النظرة وتُوجِّه انتباهه إلى جانب الخير الباقي عند الله لا عند الناس.
فقال تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} [النور: 22].
{يَأْتَلِ} [النور: 22] ائتلى مثل اعتلى تمامًا، ومنها تألّى يعني: حلف وأقسم، يوجه الحق- تبارك وتعالى- الصِّديق أبا بكر، ويذكر لفظ {أُوْلُواْ} [النور: 22] الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل ومنزلة في الإسلام، ففي كل ناحية له فضل؛ لذلك أعطاه وصفيْن مثل ما أعطى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للصِّديق: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} [النور: 22] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فاعف عَنْهُمْ واصفح} [المائدة: 13].
كذلك، أَلاَ ترى الصِّدِّيق ثانَي اثنينِ في الغار، وثاني اثنين في أمور كثيرة، فهو ثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى؛ لذلك صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عن الصِّديق: «كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان». يعني: في التسابق في الخير «فسبقته إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني إليها لاتبعته».
ولما كان لأبي بكر أفضال كثيرة في زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد، إنما بصيغة الجمع تكريمًا وتعظيمًا.
أَلاَ ترى الصِّديق مع ما عُرِف عنه من الحلم ورقة القلب لما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وحدثتْ مسألة الردّة يقف ويقول: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونها لرسول الله لجالدتهم بالسيف، لو لم أجد إلا الذر.
هذا موقف الصِّديق رقيق القلب، ليِّن الجانب، صاحب الرحمة والحنان، الذي تقول عنه ابنته إنه رجل بكّاء يعني: كثير البكاء. في حين يعارضه في أمر الحرب عمر مع عُرِف عنه من الشدة والقسوة على الكفار. لكن هذا التناقض في موقف كل منها يقوم دليلًا على أن الإسلام ليس طَبْعًا غالبًا على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه، فموقف الردة هو الذي جعل من الصِّدِّيق أسدًا شجاعًا قاسيَ القلب، ولو أن عمر في مكانه من المسئولية وفعل كما فعل الصِّدِّيق لقالوا: شِدّة أَلِفها الناس من عمر.
فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبْع خاص يظل عليه، إنما الموقف هو الذي يطبعك إيمانيًا، وهذا ما ذكرناه في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
فالمسلم ليس مفطورًا لا على الشدة وحدها، ولا على الرحمة وحدها، إنما عليه أنْ يتصرَّف في كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله.
فقوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} [النور: 22] يقول للصِّديق: أنت رجل فاضل صِدِّيق، وعندك سعة فلا تعطي ولا تُؤثر على نفسك من ضيق، ولا يليق بالفاضل أن يقطع صلته ورحمه لمثل هذا الخطأ الذي وقع فيه مِسْطح، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله، وعُوقِبَ بحدِّ القذف ثمانين جَلْدة، وليس لك أن تعاقبه بعد ذلك.
ومن سماحة الإسلام أن مَنْ وقع في حَدٍّ وعُوقِب به لا يجوز لأحد أنْ يُعيِّره بذنبه؛ لأنه تاب وأناب وطهّره الله منه بالحدِّ، وانتهت المسألة، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه.
فكأن الحق- تبارك وتعالى- يقول: ارجع إلى فضلك يا أبا بكر، وعُدْ أنت إلى سعتك، وكُنْ موصولَ المروءة، ولا تقطع رحمك، يريد- سبحانه وتعالى- أنْ يُصفِّي ما في النفوس من آثار هذه الفتنة التي زلزلتْ المجتمع المؤمن في المدينة.
ولا يليق بذي الفضل والسَّعَة أنْ يعامل الناس بالعدل، فصحيح أن مِسْطح كان يستحق هذه القطيعة وهذا الحرمان، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصِّدِّيق صاحب الفضل والسَّعَة.
ولو أجريتَ إحصاءً للمؤمنين بإله وللكافرين في الكون، ستعلم أن المؤمنين قِلَّة والكافرين كثرة، فهل قال الله تعالى لجنود خيره في الكون: أعطوا مَنْ آمن، واتركوا مَنْ كفر؟ وكأن الحق- تبارك وتعالى- يعطينا مَثَلًا في ذاته عز وجل، فكما أنه يعطي مَنْ كفر به ويرزقه، بل ربما كان أحسن حالًا مِمَّنْ آمن، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عَمَّنْ أساء إليك.
لذلك يقول سبحانه في آية أخرى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224].
فإنْ كنت بارًّا بأحد وبدر منه شيء فلا تحلف بالله أنك لا تبرُّه، فقد تهدأ ثورتك عليه، وتريد أنْ تبرَّه، وتتحجج بحلفك، إذن: لا تجعلوا الله عُرْضة لحلف يمنعكم من المعروف.
ثم يقول سبحانه: {أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} [النور: 22] صحيح أن مِسْطح من ذوي قُرْبى أبي بكر ومن المساكين، لكن يعطيه الله نيشانًا آخر، فلم يخرجه مَا قال من وصف المهاجر، ولم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم.
فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تُحبط الحسنة، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها، كما قال عز وجل: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114].
فرغم ما وقع فيه مِسْطح، فقد أبقاه الله في العَتْب على أبي بكر، وتحنين قلبه، وأبقاه في المهاجرين.
{وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} [النور: 22] العفو: ترك العقوبة على الذنب، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تُؤنبه، وتمنّ عليه بعفوْك، وتُذكِّره دائمًا أنه لا يستحق منك هذا العفو؛ لذلك يحثنا ربنا- تبارك وتعالى- على الصفح بعد العفو، والصفح: تَرْك المنِّ وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهونَ من عفوك عنه.